من أرضٍ تتنازعها الحروب العبثيّة وتحدّيات المنعطفات التاريخيّة الوجوديّة، إلى عالم الطفولة المليء بالدهشة والسحر والانخطاف، يسرقُ الجدّ ذاته الكئيبة إلى رحاب حفيدته زوي، إلى حيث لا يعود للأزمنة من معنى ولا للأمكنة المتناثرة، لتُحكى هناك قصّةٌ لا تنتهي عن الأملِ الأمل والفرح الفرح والحياةِ الحياة.
ليس ارتحالاً يغادر الجدّ برفقة الجدّة لأيّام. فهما أصلاً في هجرةٍ من دون سفرٍ، وفي غربة عن الذين أوصَلوا الوطن إلى قعرٍ معيب، خانع راضخ وذليل، لا يتوانى فيه أحد عن إهانته وإنسانه، ولا يقصّر أحد في تمريغ أنفتهما وكبريائهما وسيادتهما.
هو الشوق إلى زوي الطفلة الملاك، حَمَلَهُما. إلى البسمة التي، بحرّيةٍ بدفءٍ بحنوٍّ وببراءة، تسبحُ في فضاء العجائب، تحبكُ علاقة من أريج الورود، وتحلّقُ نسيماً، قل بساط ريح، وحكايات عن ينابيع وحدائق.
في أحضانِ اللحظات الهادئة، يدندن الجدّ لحفيدته أغنيةً الطفل والعصفور، هي المغرّدة أبداً في النعيم بكنفٍ من حنان والدتها ووالدها، وهي البريئة ببياض الكلمة. بدمّ الشاعر الذي، عندما ينشدُ يخترع الحبّ، لأجل أن تعتمر الحياة لباس العيد، وأن يتحوّل الليل إلى نهار.
مُعْتِمٌ هو البؤس، الرجال والحرب. أولئك يظنّون يملكون عرشَ الزمان. خسِئوا. أرض الحبّ لا يحدّها زمن أو مكان، لدى من يملكون قلبَ طفلٍ. أنتِ هو الحبّ. أنتِ هو العصفور يا زوي. الطفل هو أنا.
في لحظةِ تفاعلٍ لطيفةٍ، تعبِّرُ زوي لجدّها بلغّة الصمت البليغ، وببريقٍ سرّي من عينيها، طالبة المزيد. وها هي اليد تروح بأوتارٍ من قيثارةٍ مغناج، تَسْرَح في شعرها الناعمِ كالحرير، عازفة لها سيمفونيّةَ من أراجيح متدليّة من شجر الحور، وبغابة من أرانب وطيور، مع أهازيج وجداول وخراف، وبالحبّ بألف لون ولون.
وفي غفلةٍ من انسجام شمعة تضيء للقصيدة ماء الحياة، وتواصلٍ بآهات قمر وجيرانه قناديل النجوم، وبتشجيع من والدتها، رفعت زوي يديها الصغيرتين عالياً راغبة بحملها وضمّها.
في لحظة الامّحاء هذه، تراقصتْ قلوبُنا بهيامٍ عتيق، وعظيم من الأنس والوجد تملّكنا. الواقع، الجدّة كانت على كرم زوي تجاهها، قد نافستني طويلاً متباهية مستحقّة. حينها، ولرفعة الإنجاز وهيبته، ومن دون تباهٍ، توّجْتُ ذاتي ملكاً، ولم يعد لي إلاّ أن أنسحق باستسلامٍ بانشغالٍ بانهماكٍ بانغماسٍ بتَعَجُّبٍ بذهولٍ وبانبِهارٍ، مستطيباً إقامة الأميرة زوي في المسام وقد بلغت ثمانية من الأشهر، وبالرضى والسكون أسْدَلتُ على الليلة كروماً من دوالي العنب.
في سياقٍ ساحر ومتجدّد، وقبيْل المغيب، استغلّ الجدّ روتين الوالد في اصطحاب زوي إلى مشوارها المعتاد. على رصيفٍ بديعِ، تشعّ يمنة عنه الأضواء ببهاءٍ ويسرة تنساب مياه البحيرة برقّةٍ وهدوء، كان الجدّ يجرُّ عربتها، وهي تتأملُ ببهجةٍ مشاهد خلابة تطوفُ بها عيونٌ احترفت مراقصة قطرات الندى على الأزهارِ.
وإذ تستعدّ الفراشة زوي لمغامرةِ النومِ مغمورة بالسعادة، تتناثر الأحلام من حولها بتحليقٍ دافئ وتسبحُ الأفكارُ في بحرِ الخيالِ. وبقبلةٍ على الرأس أمَلاً بغدٍ أروع، وبكثافةٍ من فرح الفؤاد، تُوْدِعُني الحفيدة أثر هناء لا بل عزاء أو رجاء، في هيام مطر إلى العيد وفي شغف وطن إلى الأنهار.
بقلم أنطوان العويط