عماد مرمل -الجمهورية
«أحجية» الخسائر المالية التي كشفها افتضاح المستور- المعلوم، ألقت بظلالها على المؤسسات المعنية في الدولة اللبنانية وعلى طاولة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ما استدعى استنفاراً رسمياً لإعادة تركيب «بازل» الأرقام، قبل أن يصبح خط الرجعة مقفلاً.
لم يكن يخطر على بال كثيرين، انّ العقدة الأولى التي ستواجه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ستكون «أهلية بمحلية» و»صناعة وطنية». انتظرناها من الصندوق، المعروف باستراتيجيته الحازمة وشروطه القاسية، فأتت من الدولة اللبنانية التي خاضت كل جولات التفاوض حتى الآن من دون أن ترتكز على أرقام موحّدة للخسائر المالية، بل نشرت غسيلها على سطح أخطر وأهم مؤسسة مالية في العالم، وأضعفت بنفسها موقعها التفاوضي، كمن يطلق النار على قدمه قبل أن يشارك في سباق للركض!
وامام التفاوت الكبير في تقدير الأرقام بين الحكومة والبنك المركزي والمصارف، دخلت لجنة المال والموازنة النيابية، ولجنة تقصّي الحقائق التي انبثقت منها، على خط السعي الى ردم او تقليص الفجوة، برعاية الرئيس نبيه بري، الذي اعتبر انّ من واجب المجلس النيابي التدخّل في مثل هذا الوضع لتصويب الاتجاه وتقويم اي اعوجاج في الأرقام الرسمية.
لكن، وفيما كانت «قوة الفصل» النيابية تنتشر على «خط التماس» الفاصل بين الحكومة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي، لرأب الصدع، تسرّب «نش» الأرقام الى سقف البيت السياسي الواحد، حيث سُجّلت تباينات في المقاربة بين أعضاء «الفريق البرتقالي»، عكستها خلال الأيام الماضية المواقف المتباعدة حيال تقدير حجم الخسائر لكل من رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل ورئيس لجنة المال النيابية النائب ابراهيم كنعان ومستشار رئيس الجمهورية وعضو الوفد المفاوض مع الصندوق شربل قرداحي، في وقت بدا انّ الرئيس ميشال عون والمحيطين به، يتماهون مع مقاربة باسيل- قرداحي واستطراداً الحكومة.
والمدافعون عن وجهة نظر القصر الجمهوري وقيادة «التيار الحر»، يلفتون الى انّ اي محاولة للتشاطر على الصندوق لن تنجح، لانّه يعرف «البير وغطاه»، واقتناعه بأرقام الحكومة لم يأتِ اساساً من عبث او فراغ، «بل هو يعرف جيداً الدهاليز اللبنانية ويملك تصوراً مسبقاً حول حقيقة الأرقام، علماً انّ مدير ادارة الصندوق في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ليس سوى وزير المال الأسبق جهاد ازعور».
ويعتبر هؤلاء، انّ الحكومة انطلقت في تقديراتها من قواعد علمية، «وصندوق النقد يعلم جيداً انّها راعت في هذا الصدد المعايير الدولية، مشدّدين على أنّ تجميل الأرقام لن يغيّر الحقائق والمسؤوليات، ولا يجوز تفصيل الخسائر على قياس حسابات او مصالح ضيقة».
ويلفت المقتنعون بطرح عون – باسيل، الى انّ التفاوض مع صندوق النقد له اصوله، مشدّدين على ضرورة الإقرار بالأرقام الواقعية للخسائر المتراكمة التي يشكّل الدين جزءاً منها، الّا انّها بالتأكيد ليست استحقاقات فورية او عاجلة. ويتوقفون عند كون الولايات المتحدة تمثل ما نسبته 17 في المئة من الأصوات في صندوق النقد، الذي يحتاج اي قرار يصدر عنه الى 85 في المئة من الأصوات، وبالتالي كان في إمكان الأميركيين، الذين يراقبون الحكومة اللبنانية بدقة، ان يعترضوا على أرقامها، الّا انّهم لم يفعلوا ذلك.
أرقام الحكومة.
ويشدّد المتحمسون للمنهجية الحكومية على أهمية الاعتراف بحقيقة المرض حتى يكون العلاج سليماً، لكن ذلك لا يعني التسليم بأن يتضمن برنامج المساعدة المفترض اي شروط تنتهك السيادة الوطنية او تفوق طاقة اللبنانيين على التحمّل، كالاقتطاع من ودائعهم المصرفية، لانّه لا يجوز إثقال كاهلهم بأعباء المعالجة.
ويضيف أصحاب وجهة النظر هذه، وهم قريبون من عون وباسيل: «مع التقدير الكامل لدور لجنتي المال وتقصّي الحقائق ولرعاية الرئيس نبيه بري مسعى توحيد الأرقام، وهو المسكون عن حق بهاجس عدم الاقتطاع من أموال المودعين، الّا انّه ينبغي لفت الانتباه الى انّ مسألة التفاوض مع الصندوق هي مسألة تنفيذية من اختصاص الحكومة بالدرجة الأولى، اما الدور الأساسي والحيوي لمجلس النواب فينطلق حين يُراد البدء في الترجمة العملية لنتائج المفاوضات، اذا نجحت، سواء لجهة الحاجة إلى موافقته الإلزامية، على اي اتفاق يتمّ بين لبنان والصندوق، لانّ الأمر هنا يُصنّف في خانة المعاهدة الدولية، او لجهة اصدار القوانين الضرورية تطبيقاً لبرنامج المساعدة الذي سيتمّ اقراره».
ويلاحظ أصحاب هذا الرأي، انّ هناك من يحرق المراحل ويختصر المسافة بين التفاوض والتفاهم، منبّهين الى انّه لا يجوز الخلط بين المرحلتين، وبالتالي، فإنّ الكثير من الهواجس والملاحظات تصبح مشروعة ومبررة عند الوصول إلى لحظة الحسم والقرار، وليس منذ الآن.
ويرى هؤلاء، انّ الاولوية يجب أن تُعطى لتقصّي الحقائق في مصرف لبنان المركزي، مستغربين وضع العراقيل امام التدقيق في حساباته، بينما تتشكّل لجنة لتقصّي الحقائق على مستوى أرقام الحكومة.