الطفلة نسرين عز الدين قُتلت عن سابق إهمال في بلد “مفخخ” بحفر “مخفية”

  • May 30, 2024 - 5:20 pm

سقطت الطفلة نسرين عز الدين من فجوة في الباص المهترئ الذي يُشبه الفساد المستشري في البلد، وأسقطنا جميعاً في فجوة الصدمة والوجع. انزلق جسدها من فجوة في أرضية الباص الذي كانت تستقله إلى مدرستها، ثم داستها عجلاته فقضت عليها. كان خبر وفاتها مدوّياً، ثقيلاً وحارقاً كسقوطها المفاجئ الذي كتب نهايتها. كانت الطريق أمامها طويلة، لكن الإهمال قطعها عليها، جعلها تلفظ أنفاسها مرة تحت عجلات الباص وأخرى على سرير المستشفى بعد أن استسلم جسدها نتيجة سقوطها المدوّي على الأرض.

من يصدق أن تموت طفلة بسبب فجوة في باص؟ كأن الفجوة ابتلعتها ولم تترك سوى الدموع التي تسابقت على توديعها في مثواها الأخير. لم تكن تتوقع نسرين أن تكون نهايتها في باص كان يسير بها إلى مستقبلها، إلى مدرستها حيث ترسم أحلامها المقبلة. إنها وسيلتها للتنقل في الحياة، لكنها صارت قاتلتها في آخر يوم دراسيّ لها!

يبدو أن الإهمال بات ممسكاً بمفاصل كل شيء، التقاعس وغياب المحاسبة يعززان شبح الفلتان ويقويانه. بالأمس توفيت الطفلة ماغي محمود عندما انهار سقف الصف عليها، واليوم توفيت ياسمين بعد أن سقطت من فجوة في باص مهترئ. لم يموتا قضاءً وقدراً بل بسبب الإهمال والتقصير.

هما ليستا الوحيدتين. إذ تطول قائمة ضحايا الموت العبثي، وتعود إلى الذاكرة حادثة وفاة الطفلة رين جمعة في العام 2022، ابنة السنة والنصف، بعد إغلاق الحافلة المدرسية التي كانت تقلّها من دار الحضانة على رأسها.

“ما بعرف كيف وقعت من الفان (باص صغير)”. لقد أطلق هذه العبارة سائق الباص الذي كان يقل نسرين، وفق حديثه في الفيديو المتداول يقول “مبارح جبته للباص. ما بعرف شي من شي”.

لم يتحمل قلب والدتها هذه الفاجعة. انتكست صحتها بعد رحيل نسرين بهذه الطريقة المأسوية. ما إن وقفت نسرين حتى خذلتها الخشبة التي وُضعت تحت قدميها لتخفي الفجوة، سقطت وقُتلت. كيف استطاع من وضع هذه الخشبة أن يستكمل حياته بشكل طبيعي؟ كيف استطاع أن ينام في الليل؟ وكيف فضل التغاضي عن الخلل والتسبب بطريقة غير مباشرة بمقتل نسرين.

 تتبادر إلى الذهن مشاعر زملائها ورفيقاتها الذين كانوا شاهدين على هذه الكارثة، وشاهدوا بأم العين سقوطها الصادم وموتها. كيف هي حالهم؟ هل من أحد سأل عنهم وعن الموت المحفور في ذاكرتهم؟ هل ناموا الليل جيداً؟ كيف نشرح لكل هؤلاء الأطفال أن نسرين ماتت لأتفه الأسباب؟!

بكلمات مقتضبة، يتحدث صديق العائلة علاء عن نسرين فيقول: “تلك الطفلة التي لا تفارق الابتسامة وجهها، كان يومها الأخير في المدرسة وفي الحياة. كانت والدتها في انتظارها لتعود. لكنها عادت محمولة على الأكتاف”.

عاين كثيرون الباص من داخله، لمسوا بالعين المجردة الإهمال وقلة الضمير. يتساءل علاء “هناك من كان يعلم بهذه الفجوة وقرر أن يغطيها بخشبة لسد الفراغ. وهذا وحده دليل على الاستهتار والاستخفاف بأرواح الناس. توفيت نسرين إلا أن هناك عشرات الطلاب الذين قد يلقون حتفهم بسبب الإهمال والفساد وغياب الصيانة والرقابة”.

سأل النائب إيهاب مطر، على منصة “أكس”: “أي موت هذا الذي أصاب الفتاة الصغيرة نسرين عز الدين، لتسقط من فجوة داخل باص مدرستها لتلقى حتفها دهسا؟”.

ولكن ماذا بعد الاستنكار والدموع؟ ما الذي على الدولة القيام به بعيداً عن العنتريات والتعازي؟ من يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه من استهتار بأرواح الناس من صيانة المدارس والباصات وصولاً إلى الرصاص المتفلت الطائش؟

طالب مدير عام وزارة التربية عماد الأشقر بالتحقيق الشفاف بوفاة الطالبة نسرين، واعتبرها “شهيدة مظلومة” لكل لبنان. لكن ما هي المسؤوليات المترتبة على كل جهة؟ من المسؤول عن وفاة نسرين؟ في حين كتب النائب أشرف ريفي على منصة “إكس”: ” الطفلة نسرين ملاك خسرناه بسبب الفشل والإهمال وانعدام المحاسبة. رحيلها المفجع يضاعف المسؤولية على جميع المعنيين في القطاعات كافة، وبخاصة قطاع التربية، فالحفاظ على حياة أبنائنا وحمايتهم من كل الأخطار مهمة مقدسة. ندعو للمحاسبة “.

الحقيقة الأولى التي لا لُبس فيها أن نسرين ضحية عدم صيانة الباصات المدرسية وغياب الرقابة، فما هو واقع لبنان اليوم في ظل توقف المعاينة المكيانيكية لأكثر من سنة ونصف؟

ينطلق الخبير في إدارة السلامة المرورية كامل إبراهيم من مبدأ أساسي متعلق بالتنقل الآمن الذي تتوفر فيه معايير واضحة مرتبطة بالسلامة العامة. وذلك يعني أن على ” كل شخص يريد أن يقود حافلة مدرسية أو يملكها، استيفاء شروط السلامة العامة وتطبيقها لحماية الطلاب، وأهمها تسجيل الباص ورخصته، التأمين الإلزامي، المعاينة الدورية، وجود مراقب في الباص…إلا أنه للأسف نشهد غياباً فاضحاً لتطبيق المعايير والقوانين، وما زاد الوضع سوءًا توقف المعاينة الميكانيكية من دون ايجاد بديل”.

يعرف إبراهيم جيداً أن قانون سلامة الأمن المدرسي وقانون السير موجودان على الورق، لكن من يطبق فعلاً المعايير والشروط المطلوبة، لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية والإهمال الذي أصاب قطاع النقل كما كل القطاعات؟

يوجب القانون اللبناني على الباصات التابعة لإدارة المدارس الصيانة الدورية ووجود مراقب مكلّف (المادة الأولى من القانون 1996/551، ومن المفترض تطبيق هذه الشروط واستيفائها على مالكي الباصات الخاصة (لا علاقة للمدرسة بها) لاسيما في ما يتعلق بعدد المقاعد الذي يجب أن يكون مساوياً لعدد الطلاب ووجود رخصة للباص واحترام المعايير الخاصة بالسلامة العامة.

“وهنا تكمن أهمية القوى الأمنية والسلطة المحلية” وفق إبراهيم “المخولة ضبط المخالفات وضمان عدم تعريض حياة الأطفال للخطر. وكما شهدنا حملة على الدراجات النارية لضبط المخالفات، نتمنى أن نشهد حملة مماثلة على السيارات والباصات في ظل التراجع الكبير على مستوى السلامة المرورية بعد العام 2020 وكلفة صيانة السيارات والباصات التي يتهرب منها كثيرون لأنها تفوق قدرتهم.

بالعودة إلى رصد أجرته “لاسا” بالتعاون مع اليازا”، وصل عدد ضحايا حوادث الحافلات المدرسية خلال الشهرين الأخيرين من العام الدراسي 2022-2023 إلى 100 ضحية (بين قتيل وجريح).

لا يخفي إبراهيم تخوفه من المستقبل في حال لم تتخذ الإجراءات اللازمة، يقولها بصراحة: “الله يسترنا من يلي جايي”. على الوزارات المعنية (وزارة الداخلية والبلديات- وزارة التربية) وأصحاب الباصات تطبيق القوانين واحترامها وإلا سيكتب للبناني أن يموت “لأتفه الأسباب”.