كتب رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان: في الأصل، كان تبادل السلع يتم على أساس المقايضة (Troc)، أي عدد أو مقدار معين من سلعة ما مقابل سلعة أخرى. إلا أن تطور حركة التبادل وتوسعها أديا إلى اعتماد النقود المعدنية من ذهب وفضة باعتبارها معادن ثمينة لا تطالها عوامل التغيير فلا تصدأ ولا تتأثر بالعوامل الطبيعية، كما أديا لاحقاً إلى إزاحة الفضة من جهة، وإلى اعتماد النقود الورقية من جهة ثانية، ومن ثم إلى نشوء قاعدة الذهب أو نظام الذهب الدولي من جهة ثالثة.
وقاعدة الذهب أو نظام الذهب الدولي، هو نظام مالي يستعمل فيه الذهب كقاعدة لتحديد قيمة العملة الورقية، حيث، بناءً على هذا النظام، تُقَيَّمُ عملةُ بلدٍ مَا، ويقوم البلد الذي يتبنى هذا النظام بتحويل أي عملة لديه إلى ذهب بعدما يوافق على اعتماد أسعار ثابتة لبيع الذهب وشرائه.
إلا أن في فترة ما بين الحربين العالميتين اتخذت حكومات العالم إجراءات تقشفية قاسية وفرضت سياسات تجارية صارمة أدت إلى تفاقم آثار الكساد الكبير الذي حدث عام 1929، ومن ثم إلى نشوء نظام بريتون وودز عام 1944 الذي أدى إلى إنشاء صندوق النقد الدولي وإلى ربط العملات بالذهب حيث قامت الدول بتثبيت عملاتها بكمية معينة من الذهب، وبحيث يمكن استبدال العملة الورقية بما يعادلها ذهباً في كل حين.
لقد كان لنظام بريتون وودز فوائد وعيوب. فمن جهة، ساعد في تثبيت العملات ومنع التضخم، ومن جهة ثانية، حدّ من مرونة البنوك المركزية في التعامل مع الأزمات الاقتصادية. ولذلك، أنهى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، في عام 1971، قابلية تحويل الدولار الأمريكي إلى الذهب، مما أدى عماياً إلى نهاية نظام بريتون وودز وقاعدة الذهب، وإلى فترة من أسعار الصرف المتغيرة، حيث تحدد قيمة العملات بناءً على العرض والطلب، وإلى ارتباط العملات بالعملة الأميركية “الدولار” بوصفه أقوى العملات لاستناده إلى الاقتصاد الأميركي وهو أقوى اقتصاد عالمياً.
أولاً: في النصوص الراعية لسعر الصرف في لبنان
أما في لبنان، وبعد استقلال البلد والقطيعة الاقتصادية مع سوريا عام 1948، صدر قانون الوحدة النقدية في 24 أيار 1949 فنصت المادة الأولى منه على ما يلي:
إن الوحدة النقدية هي “الليرة اللبنانية” التي تساوي قيمتها 405,512 مليغراماً من الذهب الخالص، وهو المعدل المصرح به لصندوق النقد الدولي. وتُقسم الليرة اللبنانية إلى مئة قرش”.
إلا أن هذا القانون لم ينص على إمكانية استبدال النقد الورقي بما يعادله من الذهب وفقاً للقيمة الجديدة التي تم تحديدها بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. لا بل أكثر من ذلك تم حصر استخدام سعر الصرف المحتسب وفقاً للقيمة الذهبية القانونية لليرة في بعض المعاملات الرسمية.
وأما قبل صدور قانون الوحدة النقدية فكانت الليرة اللبنانية مرتبطة بالعملة الفرنسية وكانت كل ليرة قابلة للاستبدال بعشرين فرنكاً فرنسياً بموجب شيك مسحوب على باريس، وكانت العملة الفرنسية مثبتة رسمياً بمقدار معين من الذهب.
إلا أنه انسجاماً مع ما قرره نظام بريتون وودز، نصت المادة الثانية من قانون النقد والتسليف الصادر عام 1963، أي خلال فترة سريان هذا النظام، على ما يلي:
يحدد القانون قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص.
وكأن النية كانت متجهة إلى تحديد سعر مختلف.
إلا أن أي قانون جديد لم يصدر في هذا الشأن.
وأما قانون النقد والتسليف، وبالرعم من صدوره خلال فترة سريان نظام بريتون وودز، فقد أجاز للسلطة النقدية التدخل للمحافظة على سلامة النقد الوطني من جهة، وعلى الاستقرار الاقتصادي من جهة ثانية، وهو ما تكرس في النصوص التالية من القانون النقد المذكور:
المادة 70 التي تحدد مهمة المثرف العامة بأنها:
مهمة المصرف العامة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم وتتضمن مهمة المصرف بشكل خاص ما يلي:
المحافظة على سلامة النقد اللبناني.
المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي.
تطوير السوق النقدية والمالية.
يمارس المصرف لهذه الغاية الصلاحيات المعطاة له بموجب هذا القانون.
المادة 75 التي تقضي بتأمين ثبات القطع بنصها على ما يلي:
يستعمل المصرف الوسائل التي يرى ان من شأنها تأمين ثبات القطع . ومن أجل ذلك، يمكنه خاصة أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية مع مراعاة أحكام المادة 69.
وتقيد عمليات المصرف على العملات الاجنبية في حساب خاص يسمى “صندوق تثبيت القطع”.
المادة 69 التي تلزم مصرف لبنان بالإبقاء غلى نسبة معينة من الذهب ومن العملات الأجنبية في موجوداته إذ تنص على ما يلي:
على المصرف ان يبقي في موجوداته أموالا من الذهب ومن العملات الاجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي (30 بالمئة) ثلاثين بالمئة على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب، على أن لا تقل نسبة الذهب والعملات المذكورة عن (50 بالمئة) خمسين بالمئة من قيمة النقد المصدر.
لا تؤخذ موجودات المصرف من النقد اللبناني بعين الاعتبار لحساب النسبتين المحددتين في الفقرة السابقة.
كما منحت المادة 229 منه وزير المالية صلاحية تحديد سعر انتقالي لليرة اللبنانية على أن يكون أقرب ما يمكن من سعر الدولار في السوق الحرة في بيروت.
فبتاريخ 30 كانون الأول 1964 أصدر وزير المالية القرار الرقم 4800 فنصت المادة الأولى منه على تحديد السعر الانتقالي القانوني لليرة اللبنانية نسبة إلى الدولار الأميركي بمعدل “ثلاث ليرات لبنانية وثمانية قروش لكل دولار أميركي”، في حين نصت المادة الثانية على أن “تحدد أسعار العملات الأجنبية بالعملة اللبنانية من أجل استيفاء الضرائب والرسوم على أساس السعر الانتقالي القانوني المذكور في المادة الأولى بعد تحويل هذه العملات إلى دولارات أميركية على أساس معادلاتها بالذهب المعلن عنها لصندوق النقد الدولي”.
وفي سنة 1973، وبعدما قررت الحكومة الأميركية تخفيض قيمة الدولار الأميركي نسبة إلى الذهب، اتخذ مجلس الوزراء في 21 آذار 1973 قراراً قضى بتكليف وزير المالية تحديد سعر انتقالي جديد لليرة اللبنانية، وبالفعل أصدر وزير المالية بتاريخ 28 آذار 1973 القرار الرقم 883 الذي نص على ما يلي:
إن الضرائب والرسوم التي تستوفيها الدولة وسائر مصالح القطاع العام عن المبالغ المحررة بالعملات الأجنبية تُحسب على أساس متوسط أسعار القطع الفعلية في سوق بيروت التي تكون قد تحققت خلال الفترة المتراوحة ما بين الخامس والعشرين من كل شهر والخامس والعشرين من الشهر الذي يليه.
وتم تصديق الإجراءات التي اتخذها وزير المالية بموجب القانون الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم الرقم 6104 تاريخ 5 تشرين الأول 1973،
منحت الحكومة بموجب القانون الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم 6105 تاريخ 5 تشرين الأول 1973 صلاحية تحديد سعر انتقالي جديد لليرة اللبنانية، إذ نصت المادة الأولى منه على ما يلي:
ريثما يصبح بالإمكان تطبيق أحكام المادة الثانية من قانون النقد والتسليف تُعطى الحكومة لمدة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون، صلاحية تحديد سعر انتقالي قانوني جديد لليرة اللبنانية بعد استشارة مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي.
ويبدو أن الحكومة لم تستخدم هذا التفويض.
وبموجب المادة 51 من قانون موازنة العام 1985، مُنح وزير المالية صلاحية تحديد سعر الدولار الأميركي لاحتساب رواتب الدبلوماسيين العاملين في الخارج، وأجاز البند (3) منها لوزير المالية “تحديد أسعار ثابتة للدولار عند الحاجة”.
وبموجب الفقرة (د) من البند (4) من المادة 35 من قانون الجمارك الصادر بموجب المرسوم رقم 4461 تاريخ 15 كانون الأول 2000، يتم تحويل قيمة الفاتورة المحررة بعملة أجنبية إلى العملة اللبنانية على أساس معدل التحويل المعمول به بتاريخ تسجيل البيان التفصيلي والمسند إلى معدّلات التحويل التي يحدّدها، شهرياً أو دورياً، مصرف لبنان.
وبموجب المادة 27 من المرسوم رقم 7308 الصادر بتاريخ 28 كانون الثاني 2002، الصادر سنداً لأحكام المادة المادة 24 من قانون الضريبة على القيمة المضافة (القانون رقم 379 تاريخ 14 كانون الأول 2001)، “يتكون اساس فرض الضريبة عند الاستيراد من القيمة الجمركية الواجب التصريح عنها للبضائع المستوردة الى لبنان كما هي محددة في المادة 35 من قانون الجمارك، مضافا إليها جميع الرسوم بما فيها الرسوم الجمركية والضرائب المتوجبة بسبب الاستيراد والنفقات الأخرى التابعة لعملية الاستيراد، وتسري هذه الأحكام أيضاً على الأموال المستوردة المعفاة من الرسوم الجمركية”.
ثانياً: سعر الصرف في لبنان على الصعيد الواقعي
منذ منتصف التسعينيات، قرر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على أساس 1.507,5 ليرة لبنانية للدولار الواحد. وهو قرار ثبّتته حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري آنذاك.
استمر اعتماد هذا السعر حتى بعد عام 2005، مما يعني أن رياض سلامة بقي حارساً للفكرة الأصلية التي أبقت على سياسة تثبيت سعر الصرف.
في بلد كلبنان، حيث مصدر العملات الصعبة هو التدفقات النقدية، ويصل الجزء الأكبر منها على شكل تحويلات عمّال وتحويلات مصرفية جارية، كان من الطبيعي أن يلجأ الحاكم، السياسي والمصرفي، إلى هذه التدفقات لتثبيت سعر الصرف. والمشكلة هنا هي أن جزءاً كبيراً من التدفقات استُخدم في عملية تثبيت سعر الصرف. ولم يتم إخراج هذه المشكلة إلى الضوء عندما كانت التدفقات مستمرة، لأن هذه التدفقات كانت تعوّض الدولارات التي صُرفت في السوق لتثبيت سعر الصرف، وبهذا ظلت السيولة بالعملات الصعبة موجودة لدى المصارف اللبنانية.
بعد عام 2011، تراجعت التدفقات النقدية، وظهر العجز الكبير في الحساب الجاري الذي يقيس الدولارات التي تدخل إلى لبنان مقابل الدولارات التي تخرج منه، فبدأت المشكلة تتوضّح، وتراجعت السيولة الموجودة لدى مصرف لبنان والمصارف. وبدأ حاكم مصرف لبنان لعبة الهندسات المالية الشهيرة، مما ساهم في مضاعفة الخسائر من جهة وبروز مشكلة تثبيت سعر الصرف من جهة ثانية.
وانفجرت الأزمة في مطلع العام 2020 فلجأ حاكم مصرف لبنان إلى إصدار التعميم رقم 151 تاريخ 21 نيسان 2020، وبالتالي تحديد سعر الصرف على أساس 3.900 ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد، ومن ثم رفع السعر إلى 8.000 ليرة لبنانية، فإلى 15.000 ليرة لبنانية.
كما أن حاكم مصرف لبنان أصدر بتاريح 26 آب 2020 التعميم الوسيط رقم 568 فأجاز بموجبه تسديد قروض التجزئة الممنوحة بالعملات الأجنبية على أساس سعر صرف يبلغ 1.507,5 ليرة لبنانية للدولار الواحد، الأمر الذي أدى إلى وجود سعري صرف رسميين في آن واحد: واحد محدد بموجب التعميم رقم 151 وآخر محدد بموجب التعميم رقم 568.
وفي 17 أيار 2021 باشرت منصة صيرفة عملها بعد أن تم الإعلان عنها بموجب التعميم رقم 157 الصادر بتاريخ 10 أيار 2021 الموجه إلى المصارف، وبموجب التعميم رقم 583 الموجه إلى مؤسسات الصرافة العاملة في لبنان والصادر بالتاريخ ذاته، فأوجد سعر صرف جديداً هو سعر المنصة الذي انطلق من 3.900 ليرة لبنانية للدولار الواحد في بداية عمل المنصة ليصل 90.000 ليرة ومن ثم ينخفض إلى 85.500 ليرة لبنانية على عهد الحاكم السابق لمصرف لبنان، ومن ثم ليصبح معادلاً لـ 89.500 اعتباراً من تاريخ 19 كانون الأول 2023، بعد أن اقتصر عمل المنصة على دفع رواتب العاملين في القطاع العام بالدولار الأميركي منذ شهر آب 2023.
ما بين النص والواقع تأرجح سعر صرف العملة اللبنانية تحديداً وتثبيتاً وإطلاقاً لدرجة حصول بون شاسع بين السعر الرسمي الذي حدده حاكم مصرف لبنان وعدّله منذ شهر نيسان 2020، وبين سعر السوق الذي يفترض أن يراعي قاعدة العرض والطلب، لدرجة بلوغ سعرالسوق أكثر من 140 ألف ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد في 21 آذار 2023. وقد لعبت المضاربات على العملة اللبنانية دوراً كبيراً في تقلبات سعر السوق فاثرى البعض وتهاوى الكثيرون.
وبدلاً من اعتماد قاعدة العرض والطلب لتحديد سعر صرف العملة اللبنانية قام حاكم مصرف لبنان بتثبيت سعر الصرف منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي فكان سقوط هذا السعر مدوياً عند انفجار الأزمة وترك آثاراً عميقة على الاقتصاد الوطني وعلى مدخرات المواطنين وعلى القطاع المصرفي.
وإن كان تحديد سعر صرف العملة اللبنانية ذهباً قد حدد بقانون في العام 1949، وإن كانت المادة الثانية من قانون النقد والتسليف قد نصت على أن يحدد هذا السعر بقانون على أساس قاعدة الذهب، إلا أن المادة 229 من القانون ذاته أجازت تحديده انتقالياً بقرار من وزيرالمالية على أساس ارتباطه بالدولار الأميركي.
وأما تحديده بقانون على أساس قاعدة الذهب فقد أصبح عديم الحاجة والفائدة بعد أن جرى التخلي عالمياً عن هذه القاعدة من جهة، وبعد صدورعدة نصوص، كما رأينا، تترك أمر تحديده للسلطة التنفيذية بالتوافق مع مصرف لبنان من جهة ثانية.
واستطراداً، فإن القول بأن سعر الصرف سيحدد بموجب مشروع موازنة العام 2024 لا أساس له من الصحة لأن مشروع الموازنة المذكور لم يتضمن لا بالنص ولا حتى بالأرقام تحديداً أو تعديلاً أو توحيداً لسعر الصرف وأبرز مثال على ذلك بقاء الرواتب على سعر صرف لا يتجاوز مع المساعدة الاجتماعية التسعة الاف ليرة بينما الإيرادات احتسبت على أكثر من سعر صرف. ويالتالي إن كل ما تضمنه هذا المشروع هو تعديل بعض الضرائب والرسوم والغرامات بمضاعفة بعضها أربعين ضعفاً، ومضاعفة البعض الآخر عشرون ضعفاً، وحتى مائة وخمسين ألف ضعف في ما خص رسم تسجيل شركة في السجل التجاري. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن قانون الموازنة ليس مجالاً للتشريع في كل شأن، وإنما هو كما حددته المادة الخامسة من قانون المحاسبة العمومية كما يلي:
قانون الموازنة هو النص المتضمن إقرار السلطة التشريعية لمشروع الموازنة.
يحتوي هذا القانون على أحكام أساسية تقضي بتقدير النفقات والواردات، واجازة الجباية، وفتح الاعتمادات اللازمة للإنفاق، وعلى أحكام خاصة تقتصر على ما له علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة.
فأين يندرج تحديد سعر الصرف ضمن هذا المضمون؟؟