أمن سفارة عوكر ليس فوق كلّ إعتبار

  • Sep 30, 2023 - 11:00 am

في 20 أيلول 1984 كانت السفارة الأميركية في عوكر على موعد مع شاحنة مفخّخة قادها انتحاري وانفجرت عند بوابتها الرئيسية. نتج عن هذا العمل الإرهابي الذي تتهم واشنطن “حزب الله” بالوقوف وراءه، 11 قتيلاً وعدد من الجرحى. في 20 أيلول 2023، في المكان نفسه وعند المدخل نفسه، أطلق مسلح النار على السفارة من دون وقوع إصابات. الحادث أيقظ الهواجس الأمنية التي تحيط بالوجود الأميركي في لبنان، قبل أن تعلن قوى الأمن الداخلي عن توقيف الفاعل. ولكن الرواية الأمنية حملت الكثير من الإبهام الذي يخلق علامات استفهام كثيرة.

منذ العام 1976 تواجه واشنطن مخاطر تعرّض دبلوماسييها ورعاياها ومصالحها ومقرّاتها في لبنان، للاعتداء. يوم الأربعاء في 16 حزيران 1976 غادر السفير فرنسيس ميلوي، الذي كان استلم منصبه في لبنان في 12 أيار، والمستشار الاقتصادي روبرت وبرينغ السفارة الأميركية في عين المريسة بسيارته الشفروليه يقودها السائق اللبناني زهير المغربي، وكانت تحمل السيارة لوحة دبلوماسية 104 متوجهين إلى الحازمية للاجتماع بالرئيس المنتخب الياس سركيس. لكن السفير لم يصل إلى موعده.

 

حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر عُثِر على جثث الثلاثة على شاطئ الرملة البيضاء ليتبيّن لاحقاً أنّ حاجزاً تابعاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عند معبر المتحف خطفهم وقتلهم. وقد توصّل التحقيق إلى تحديد هويّات الذين نفّذوا العملية واعتُقِل بعضهم وحوكموا في العام 1996، واستفادوا من قانون العفو الأمر الذي اعترضت عليه واشنطن من دون أن يلقى اعتراضها قبولاً عند السلطات اللبنانية في ظلّ عهد الوصاية السورية.

من عين المريسة إلى عوكر

على الرغم من اغتيال السفير، وعلى الرغم من اتّهامها بالتدخّل في الحرب في لبنان ضد منظمة التحرير الفلسطينية، لم تغلق واشنطن سفارتها في عين المريسة في بيروت الغربية. بقيت على تنسيق مع جهاز أمن 17 في “حركة فتح” وياسر عرفات الذي استنكر عملية الاغتيال. ولكن في 18 نيسان 1983 جاءتها الضربة القاضية من خلال تفجير السفارة بواسطة شاحنة مفخّخة. أدّت العملية إلى تدمير كامل لقسم من المبنى الذي كانت تشغله في عين المريسة، وإلى مقتل 63 شخصاً، بينهم 52 من الدبلوماسيين ومسؤولي الـCIA في الشرق الأوسط، وقد أعلنت منظمة الجهاد الإسلامي مسؤوليتها عن العملية التي لا تزال واشنطن تتّهم “حزب الله” بتنفيذها.

في 18 نيسان 2023 أحيت السفارة الأميركية في عوكر الذكرى الـ40 للعملية. وقد انضمّت عائلات الضحايا إلى السفيرة دوروثي شيا ونائب رئيس البعثة ريتشارد مايكلز. وقد أعلنت شيا أنه “بعد مرور أربعين عاماً على الهجوم الانتحاري، لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بجهودها من أجل هزيمة الإرهابيين أينما وجدوا”. وقد وضعت شيا إكليلاً من الزهر على النصب التذكاري في السفارة في عوكر كما وضع مايكلز إكليلاً من الزهر في الموقع الأصلي للسفارة في عين المريسة.

اعتداء عين المريسة، ثم تفجير مقرّ المارينز على طريق المطار في 23 تشرين الأول من العام نفسه، كانا كافيين لاتّخاذ قرار أميركي بنقل السفارة إلى بلدة عوكر في المنطقة الشرقية باعتبار أنّ المقرّ الجديد يمكن أن يكون في منأى عن قدرة “حزب الله” على الوصول إليه. بين 1976 و1983 تبدّلت المعطيات على الأرض، وبات “حزب الله” هو الذي يلاحق الأميركيين والمصالح الأميركية بحكم العداء بين واشنطن وطهران. ولكنّ المقرّ الجديد في عوكر لم يكن آمناً أيضاً إذ تعرّض لاعتداء حصل في 20 أيلول 1984 بواسطة شاحنة مفخّخة لا تزال واشنطن تتّهم “حزب الله” بالوقوف وراءها. وفي 20 أيلول 2023 نظّمت السفيرة الأميركية أيضاً احتفالاً في عوكر في ذكرى التفجير الذي سقط فيه 11 قتيلاً وعدد من الجرحى. هذا التفجير كان كافياً لكي تتّخذ السفارة تدابير أمنية واسعة لمنع تكرار هذه العمليات خصوصاً مع تنفيذ مخطط توسيع بناء السفارة لتكون أكبر سفارة أميركية في الشرق الأوسط. ولكن في 20 أيلول 2023، وبعد احتفال السفارة بهذه الذكرى وعند الساعة العاشرة و40 دقيقة ليلاً، أطلق مسلح النار على مدخل السفارة الأمر الذي خلق علامات قلق كبيرة حول هذا الاستهداف الأمني، وفي هذا التوقيت الليلي، ولو من دون وقوع إصابات. وبدأت التساؤلات حول هويّة منفّذ العملية والجهة التي تقف وراءه، وحول تمكّنه من الوصول إلى هدفه ثمّ الخروج من مسرح العملية من دون توقيفه واكتشاف هويّته.

أمن السفارة والأسلاك الشائكة

في الواقع ليس الوصول إلى مدخل السفارة الأميركية في عوكر مسألة معقّدة. السفارة التي تشهد أكبر عملية بناء لمنشآتها الجديدة، تعاني من عملية استرخاء أمني واطمئنان إلى أنها غير مستهدفة في هذه المرحلة. في 30 آب الماضي كانت السفيرة الأميركية شيا وكبير مستشاري الرئيس الأميركي جو بايدن لشؤون الطاقة العالمي آموس هوكشتاين، يتجوّلان في بيروت وفي قلعة بعلبك.

وخلال المرحلة الماضية لم تكن هناك تهديدات مباشرة للسفارة إلا من خلال بعض التظاهرات، التي كانت قوى الجيش التي تؤمّن حماية السفارة توقفها عند مدخل الطريق المؤدي إليها من ساحة عوكر. ولكن هذا الطريق مفتوح دائماً للسيارات. ثمّة حاجز للجيش وعسكري داخل “الكابين” يكتفي عادة بإيماءة عفوية للسيارات بالمرور من دون تفتيش إلا في حالات نادرة خصوصاً للشاحنات الصغيرة. وعند المدخل الشرقي ثمّة حاجز آخر للمتّجهين نزولاً يعتمد التدابير نفسها.

من المدخل الغربي ثمة أسلاك شائكة وحواجز حديدية متروكة جانباً بانتظار استخدامها في حال كانت هناك أي تظاهرة شعبية ضد السفارة. لذلك يمكن العبور حتى من المدخل الرئيسي من دون تفتيش ولا توجد هناك حاجة لاستخدام معابر أخرى قيل إنّ المهاجم قد يكون سلكها للوصول إلى هدفه. وبالتالي بغضّ النظر عن الطريقة التي اعتمدها، يمكنه الخروج من ساحة العملية حتى على الطريق الرئيسي ومن دون الحاجة إلى سلوك طرقات أخرى. إطلاق النار استغرق ثوانيَ قليلة لم تكن كافية للردّ عليه من قبل حرّاس السفارة في الداخل، ولم تكن كافية أيضاً لكي تتنبّه قوة الجيش التي تحمي السفارة حتّى تستنفر وتوقفه قبل أن تعي حقيقة ما حصل. كما أنّ محيط السفارة يُعتبر فالتاً أمنياً. ربما كانت السفارة بالتعاون مع أجهزة الأمن اللبنانية أخذت تدابير حماية من خلال تحديد هوية السكان في الأبنية المجاورة، ولكن هذا الأمر لا يكفي، ذلك أنّه بإمكان أي جهة منظَّمة أن تخترق هذه التدابير وتستخدم أحد الأبنية المطلّة على السفارة لتراقب ما يحصل داخلها خصوصاً أنها تمتدّ على مساحة واسعة محاطة بسور حديدي بسيط وبأبراج مراقبة لا يمكن أن تؤمّن لها حماية بالكامل.

 

من الضاحية وقريب من “حزب الله”

على مدى خمسة أيام استمرّت التكهّنات والتحليلات قبل أن تقطع شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي الشكوك وتعلن عن توقيف الفاعل، محمد مهدي حسين خليل، مواليد 1997 في محلّة الكفاءات في الضاحية الجنوبية. ولكنّ المفاجأة كانت أنّه “نفّذ العملية لهدف شخصي”. وتمّ ضبط درّاجته الآليّة والحقيبة الخاصة بإحدى شركات التوصيل، وبندقية الكلاشنكوف المستخدمة في إطلاق النار.

وبالتحقيق معه، قال إن سبب إقدامه على ذلك يعود الى إشكال حصل معه أمام السفارة منذ حوالي الشهرين (في 19 تموز) مع أحد عناصر الأمن حين كان يقوم بتوصيل طلبية طعام بصفته سائقاً لدى إحدى شركات التوصيل. وقرّر الردّ على الإهانة فنفّذ عمليته في 20 أيلول. السؤال هو لماذا اختار 20 أيلول تاريخ ذكرى تفجير السفارة عام 1984؟ ولماذا قرار الرد والمخاطرة بإطلاق النار بعد شهرين على تلك الإهانة؟ وهل وجود سوابق له في إطلاق النار على مقرّ المديرية العامة للأمن العام ثلاث مرّات، في 5 و28 تشرين الثاني و9 كانون الأول 2022، هو الذي قاد إلى كشف هويّته من خلال المقارنة بين مظارف الرصاصات التي أطلقت من الرشاش نفسه؟ وإذا كان تمّ تحديد هويّته سابقاً فهل أوقف وحوكم؟

في المعلومات التي تسرّبت حول هويّة الموقوف أنّ والده كان في “حزب الله” وكان مؤيداً للشيخ صبحي الطفيلي وتربطه صلة قرابة عائلية وثيقة بالحاج حسين خليل المستشار السياسي للأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله. هذا الأمر يقود إلى سلسلة أسئلة مشروعة: هل أعلمت شعبة المعلومات “حزب الله” بهوية المتهم قبل اعتقاله؟ وهل سهّل “الحزب” هذه العملية؟ وهل يعني ذلك أنّه لا يحمي من يعتدي على السفارة الأميركية حتى لو كان من بيئته؟ وأنّه لا يريد أن تُلصَق به تهمة من هذا النوع وفي هذا التوقيت؟

 

سابقة “داعش” وطائرة الدرون

في 13 شباط 2020 أصدر قاضي التحقيق العسكري الأول بالإنابة فادي صوان قراراً ظنياً في حق السوري إبراهيم السالم وعشرين من رفاقه، اتّهمهم فيه بالإنتماء إلى تنظيم “داعش” والتحضير ومباشرة إعداد عبوات ناسفة وشراء المواد الكيميائية لها، وإجراء تجارب عليها، كما كان في صدد شراء طائرة مسيّرة (drone) لوضع العبوة عليها وتفجيرها فوق السفارة الأميركية في عوكر، وحصد أكبر عدد ممكن من الضحايا، وأحالهم أمام المحكمة العسكرية الدائمة للمحاكمة.

وفي المعلومات المتعلقة بتلك القضية أنّ السالم بدأ البحث عن شراء طائرة “درون”، لكنّه ما لبث أن اكتشف أن أسعارها مرتفعة. إلا أنه استحصل عبر البحث على (Google) على كيفية تجميع طائرة مماثلة وتزويدها متفجّرة تقتل أكبر عدد ممكن. واشترى مواد أولية لتصنيع المتفجرات من صيدلية قريبة من مكان إقامته في الأوزاعي، وبدأ تصنيعها قبل أيام من توقيفه. أمّا خطته لتنفيذ العملية الإرهابية فكانت تقضي بأن يذهب إلى نقطة لا تثير الشبهات قرب السفارة في محلة عوكر، وأن يقوم بعملية استطلاع محكمة، ثم يتحيّن مناسبة يكون فيها اكتظاظ داخل السفارة، فيعمد إلى إطلاق الطائرة ويقوم بتفجيرها. لدى مداهمة المنزل المقيم فيه ضُبطت كل المواد المصنّعة والتي هي قيد التصنيع، والخرائط والمستندات التي تعلّم عبرها كيفية تصنيع المتفجّرات وبدء تركيب الطائرة. سيناريو عملية 20 أيلول 2023 أعاد إلى البحث سيناريو عملية الدرون. لماذا يفكر “داعش” باستهداف السفارة الأميركية في عوكر؟ وللتذكير فقط أيضاً أنه في 6 أيلول 1989، قرّرت واشنطن إغلاق سفارتها في عوكر بسبب العلاقة المتوترة مع العماد ميشال عون وتهديد أنصاره بالتوجه إليها ومحاصرتها وأعادت فتحها في تشرين الثاني 1990.