ليس بسيطاً ما بدأ يجري في القطاع المصرفي. على الأرجح سيتخذ أشكالاً مختلفة في المرحلة الآتية، وسيكون بوابة لمرحلةٍ مالية ونقدية وسياسيةٍ صاخبة يستعدُّ البلد لدخولها في الأشهر القليلة المقبلة، ربطاً بالاستحقاقات المرتقبة، من انتخابات نيابية ورئاسية، وبالحكومة التي ستديرها وتشرف على هذه المرحلة.
بديهي أن يدخل القضاء على خطّ المشكلة المصرفية ويتلقَّفها، فيحدِّد المسؤوليات بعدالة ويفتح التحقيقات، بدءاً بجذور الأزمة التي تعود إلى عقود وانتهاء بما يحصل اليوم. وهذه التحقيقات تشمل القطاعات والوزارات والمرافق والأجهزة المعنية، بلا استثناء، لأنّ ملفاتها متداخلة أو مترابطة، وتشمل المصارف التجارية كما المصرف المركزي. ولا يمكن استثناء أي خلل في أي موقع من هذه العملية، لأنّ ذلك يعوق ظهور الوقائع في مواقع أخرى.
يعني ذلك أنّ هناك إجراءات كان يُفترض أن يتخذها القضاء، وقوانين كان يجب أن يقرّها المجلس النيابي سريعاً، وتدابير أخرى يتخذها حاكم مصرف لبنان والمصارف ووزارة المال والحكومة عموماً، بعد 17 تشرين الأول 2019 بساعات أو بأيام. لكن الجميع لم يفعل. وهذا ما توقّف عنده الخبراء والموفدون الدوليون بكثير من الاستغراب دائماً، ولم يجد أحد تفسيراً له.
لم يقم المجلس النيابي بسنّ قانون «كابيتال كونترول» يحمي الدولارات الباقية ويمنع حيتان المال من تهريب أموالهم المشروعة وغير المشروعة، ولم يتخذ أي تدبير لمنع التهريب على أنواعه، واختار المصرف المركزي توزيع أسعار مختلفة للدولار، ومن خلالها يجري ابتلاع الودائع بطريقة خفيَّة واستنسابية.
ولم تتخذ الحكومة أي قرار يوقف الهدر ويكشف الفساد المتراكم في كل مؤسسات الدولة، لا في الكهرباء ولا الاتصالات ولا سوى ذلك. وحتى مشاريع الموازنات اعتمدت فقط على زيادة الرسوم والضرائب، فيما خُطط التعافي لم يعترف بها صندوق النقد الدولي، لأنّها لا تقارب أي إصلاح. ولم يتحمَّس أي مسؤول لتسهيل التدقيق في أي مرفق. وأما القضاء فبقي صامتاً ومشلولاً.
يوحي ذلك بأنّ قوى السلطة بلا استثناء شريكة في شبكة المفاسد، بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة. فجميعها سعت إلى التعتيم على الفساد القديم وتغطية الفساد الجديد، لأنّ البديل هو انفضاحها وسقوطها سياسياً. ولو كان هناك طرفٌ واحد في السلطة بريئاً، لعاكَس الآخرين وكشف المخالفات قبل بلوغ الاهتراء الكارثي اليوم، أي بعد عامين ونصف العام.
لذلك، هناك استغرابٌ في العديد من الأوساط لما يجري اليوم في القطاع المصرفي. فـ«بعض» القضاء يتحرَّك لفتح «بعض» الملفات في «بعض» الجوانب من هذا القطاع، يغطيه «بعض» مَن في السلطة، وتحديداً الرئيس ميشال عون وفريقه ويدعمه «حزب الله». ويتصدّى لهذه «الهجمة» الآخرون من أهل السلطة والقضاء والمصارف والسياسة.
المتابعون يقولون: ما دفع فريقاً من السلطة إلى «الاستفاقة» اليوم وتحريك القضاء هو تحديداً مصالحه السياسية والمالية، ولو كان الأمر خلاف ذلك لما «نام» طوال هذه الفترة من الاهتراء وباركها.
ومن الواضح أنّ فريق عون يستخدم الضغوط القضائية لدفع خصومه إلى مقايضته سياسياً، وتحديداً في مسألة رئاسة الجمهورية. فإذا ما تحقَّق له هذا الهدف، عاد إلى المهادنة التي التزمها منذ تشرين 2019، وقبل ذلك بسنوات. وهو بالتأكيد، لا يرغب في فتح الملفات عشوائياً، في الملفات التي تعنيه أيضاً، لأنّ ذلك يعطّل طموحاته السياسية المقبلة.
عملياً، يستعيد فريق عون أسلوب «الصولد» الذي لطالما اعتمده في العديد من المحطات. وهو طبعاً لن يشنّ حروباً عسكرية، كما فعل في مرحلة 1988- 1990، لأنّ الظرف لا يسمح له بذلك، لكنه بالتأكيد قادر على الضغط أكثر مما فعل في مرحلة 2014- 2016، عندما عطَّل انتخابات الرئاسة وأبقى الموقع شاغراً إلى أن وقع عليه الاختيار.
الضغط الذي يُرتقب أن يمارسه فريق عون، بين أيار وتشرين، سيكون قاسياً على الأرجح. وإذا كان التلاعب بورقة تعطيل القطاع المصرفي هو البداية، فمن السهل توقُّع الانهيارات التالية، وما ستقود إليه.
خبراء المال يقولون إنّ أي تعثُّر يصيب مؤسسة مصرفية ذات شأن، في أي بلد، من شأنه أن ينعكس إرباكاً في القطاع ككل. والنماذج واضحة في الأزمات التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا.
وما يجري اليوم في لبنان قد يبدأ بفتح ملفات تستهدف مؤسسات مصرفية من الحجم الكبير والمصرف المركزي، في لحظةٍ غير مسبوقة من الإرباك المالي والنقدي والشلل الاقتصادي. وليس مضموناً أن تصل الملفات المفتوحة إلى خواتيمها وبسرعة، بل إنها قد تتَّسع كبقعة الزيت لتشلّ القطاع برمّته.
هناك مَن يقول إنّ اللحظة ستكون مناسبة لـ«حزب الله» للانتقام من النظام اللبناني القديم، القائم على ثنائية مارونية- سنّية، سياسياً ومالياً ومصرفياً. وهذا ما يريده بالضبط من خلال دعم الإجراءات القضائية الأخيرة.
ولذلك، هو سيستفيد من هذا الانهيار المصرفي لإعادة بناء القطاع على توازنات جديدة. وهذا المشروع عبَّر عنه القريبون من «الحزب» مراراً. وعلى الأرجح، هو يحظى أيضاً بموافقة الشريك في الثنائي الشيعي، الرئيس نبيه بري، ولكن بأساليب مختلفة.
يقول بعض المتابعين: قد تؤدي ضغوط عون و«الحزب» إلى نسف القطاع المصرفي القائم. وبعد ذلك، يتفاوضان على البديل. فيُعطى فريق عون مكاسب نيابية ووزارية ورئاسية، مقابل أن يُعطى «الحزب» ما يريد من توازنات في القطاع المصرفي، بدءاً بالحاكمية وانتهاء بتركيبة المؤسسات المصرفية.
ستكون هذه الخربطة جزءاً من المقايضات السياسية والطائفية المنتظرة، إذا شاءت الظروف عقد مؤتمر تأسيسي. ولكنها لا تتمّ من دون وجع. فالانهيار المالي والنقدي سيبلغ في هذه الحال حدوداً يصعب تصوُّرها، والعواقب الاجتماعية وربما الأمنية خطرة جداً.
وليس واضحاً أي سيناريوهات يمكن أن يعيشها البلد حينئذٍ، لكنها كلها خطرة، قبل أن تبدأ لملمة الأزمة والانطلاق من جديد، بتدخّل خارجي طبعاً.
طوني عيسى – الجمهورية