قال البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في عظته السبت خلال جنازة المرحوم الأباتي أثناسيوس الجلخ، في كنيسة مار نعمة الله- طميش: “عظيمة قوّة الصلاة!”هذه كانت قناعة المرحوم الأباتي أثناسيوس، وكانت بمثابة شعار يردّده في مجالسه باللغة السريانيّة : “رابو حيلا دصلوتو!”.
وأضاف الراعي: “هذا ما تَعلّمه في العمق خلال سنتي الإبتداء في دير مار قبريانوس ويوستينا في كفيفان، العابق بعطر القدّيسَين نعمة الله وشربل والطوباويّ الأخ اسطفان، وجارتهم القدّيسة رفقا في دير جربتا. فكم تأمّل في صورة القدّيس نعمة الله ساجدًا، باسط اليدين، ورافعًا عينيه وعقله وقلبه إلى فوق. حتى جسّد الصلاة نهجًا وعملًا، في المواظبة عليها بشكل مثاليّ ملفت في حياة كلّ جماعة ديريّة عاش فيها، وترجمها في فضائل القناعة والتجرّد والتقشّف وبساطة العيش. ولـمّا فقد النظر في السنوات العشر الأخيرة من حياته، ازداد في الصلاة العقليّة، وعاش وحيدًا مع الوحيد. وقد لمسنا ذلك عندما زرناه في دير مار موسى الحبشي-الدوّار، أثناء زيارتنا الراعويّة للمنطقة.
بفضل مَثَل حياته الرهبانيّة، لبّى الدعوة الإلهيّة كلّ من إبن شقيقه عزيزنا الأب جورج لإتباع المسيح على طريق المحبّة الكاملة في الرهبانيّة الجليلة، وابن شقيقته عزيزنا الخوري مخائيل في الكهنوت الأبرشيّ”.
وتابع قائلاً: “انفتح قلبه على الصلاة في البيت الوالديّ، بيت المرحومين ديب الجلخ ونور الزيناتيّ من بحرصاف العزيزة، وأمامه الأمثلة في أخواله المرحومين: الأب مبارك الزيناتي، إبن الرهبانيّة الجليلة، والخورأسقف الياس الزيناتي النائب العام في أبرشيّة صيدا، والإكليريكيّ جورج الذي توفي قبل رسامته”.
وأشار الراعي الى أن المرحوم الأباتي أثناسيوس جسّد في حياته القاعدة المأثورة: “شريعة الإيمان شريعة الصلاة”. ما يعني أنّ صلاته كانت تنبع من إيمانه. فالمؤمن هو الذّي يصلّي، لأنّه يدرك أنّ الصلاة هي وسيلة الإتّحاد بالله، يرفع فيها القلب والعقل والفكر إليه. وإذا كانت الصلاة في أزمة، فمردّ ذلك إلى قلّة الإيمان. وقد شاء الله أن يعطينا علامة عن إيمانه وصلاته، في أنّه بعد رحلة على وجه الأرض دامت أربعًا وتسعين سنة، توفي في يوم عيد شفيعه القديس أثناسيوس الكبير، أسقف الإسكندريّة (+373)، المشهور بإيمانه وصلاته، وقبوله الظلم دفاعًا عن عقيدة الإيمان التي علّمها مجمع نيقيه (325).
ولفت الى أن شخصيّة الأباتي أثناسيوس ظهرت في الحياة الرهبانيّة بما تميّز به من علم وصدق وجديّة وروح مسؤوليّة وحزم وقرار. فأسندت إليه السلطات المتعاقبة مهمّة تدريس مادّة التاريخ، وهي من اختصاصه، في جامعة الروح القدس الكسليك وفي ثانونيّات الرهبانية، وإدارة مدارس، ورئاسة أديار. فترك ذكرًا طيّبًا في النفوس حيثما حلّ أكان مسؤولًا أم راهبًا عاديًّا، من مثل بيت شباب وحمّانا وبحرصاف وغزير والدوّار. ومحضه أبناء الرهبانيّة ثقتهم فانتخبوه مدبّرًا عامًّا مرّتين، وعيّنه للمرّة الثالثة نائبًا عامًّا القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني، ثمّ انتخبوه رئيسًا عامًّا. لقد أمضى أربعًا وعشرين سنة في المسؤوليّة العامّة، علّمته ما كان يردّده: “مخطئ من يعتقد أنّ بإمكانه إدارة الرهبانيّة أو أي مجتمع كنسيّ بالدهاء البشريّ. بل يجب الإتكّال على “الفوقاني” أي الإتكال الدائم على الله.”
وكشف الراعي أنه “في عهد رئاسته العامّة، أنجز تجديد قوانين الرهبانيّة، وثبّت النهج الرهبانيّ الديريّ. بالنسبة إليه القوانين هي إطار واقعيّ لعيش الإنجيل ومشوراته. وفي عهده أولى عناية خاص دعاوى القدّيسين، ففتح طلب تطويب الأخ إسطفان، وسرَّ بإعلان قداسة القدّيسة رفقا. وعلى مدى سبعين سنة شارك في كلّ المجامع الرهبانيّة، وكان فيها صاحب الرأي والمشورة”.
و تابع: “وتأتي الشهادة من أبناء الرهبانيّة: “أنّ الأبّاتي أثناسيوس الراهب والكاهن بما أوتي من مواهب، وما حصّله من علم، وما كسبه من خبرة روحيّة، جعلت منه معلّمًا في الحياة الروحيّة والرهبانيّة، هكذا عرفه إخوته الرّهبان من خلال حياته والتزامه الشخصيّ بعيش النذور وفضائل المشورات الإنجيليّة، ومن خلال الرياضات الروحيّة الّتي أحياها والعظات والتعاليم الرهبانيّة للناشئة، ومن خلال الرسائل العامّة التي وجهها إلى الرهبانية خلال رئاسته العامّة، وبالأكثر من خلال لقائه الشخصيّ المحبّ مع كلّ راهب وأخ دارس، وأخ مساعد في الأديار، ومع النشء الرهبانيّ”.
وأضاف قائلاً: ” لقد أحبّ الكنيسة باحترام السلطة فيها وبروح الطاعة؛ وأحبّ الرهبانيّة حتى اعتبره إخوته في الرهبانيّة أيقونتها الصافية، وأحبّ الوطن لبنان الذي كان يعتبره أكثر من تاريخ وجغرافية، بل آمن به مساحة حريّة لعيش القيم. فدافع عنه وحمله في صلاته بشعبه ومسؤوليه”.
وقال: “بفضل كلّ هذه المزايا، انتدبته السلطة العليا في الكنيسة لمهام خارج الرهبانيّة من بينها: عيّنه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر زائراً رسوليّاً للراهبات الباسيليّات الحلبيّات، والمثّلث الرحمة، البطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، زائراً بطريركيّاً على جمعيّة راهبات سيّدة الحقلة البطريركيّة. كما شارك في العديد من اللجان الكنسيّة والرهبانيّة الّتي أنشاتها السلطات الكنسيّة.
فلكّل إستحقاقاته في الكنيسة والرهبانيّة والمجتمع منحه رئيس الجمهوريّة الأسبق العماد إميل لحوّد وسام الأرز الوطنيّ برتبة كومندور”.
وفي الختام أشار الراعي الى أن أجمل ما تنعم به نفسه الطاهرة، أمام العرش الإلهيّ، هذه الصلاة التي نرافقه بها مع السادة المطارنة والرسميّين وجمهور الرهبان والراهبات والكهنة والمؤمنين لراحة نفسه، وهو الذي ردّد في حياته: “عظيمة قوّة الصلاة”. نسأل الله أن يتقبّل صلاتنا، ويشركه في مجد المشاهدة السعيدة ويعوّض على الرهبانيّة والكنيسة برهبان قدّيسين. لله المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.


