سلط البيان التحذيري الأخير الذي صدر عن نادي قضاة لبنان الضوء على أخطر حلقات الانهيار الذي تعيشه بلاد الأرز، وقال البيان «متى انهار القضاء زال الكيان»، والوضع غير المقبول الذي يعيشه حماة العدل لا يمكن تصوره، فالمكاتب بلا قرطاسية وبلا كهرباء وبلا وسائل تدفئة، ورواتب القضاء والمساعدين القضائيين تكاد لا تكفي لتأمين وصولهم إلى مكان عملهم، بينما المهام تتزايد على كاهلهم من جراء الاضطرابات الحاصلة على كل المستويات، خصوصا فيما نتج عن تفجير مرفأ بيروت، كما في تبعات تراجع قيمة العملة الوطنية وحجز أموال المواطنين في البنوك، وكلها ملفات تستدعي نشاطا قضائيا مضاعفا للبت بتبعاتها الكارثية. ولعل القضية الجوهرية، التي أشار إليها بيان نادي القضاة، هي محاولة السلطة تمرير «قانون فارغ» لاستقلالية القضاء، يكرس التدخلات السياسية فيه، بينما المطلوب استقلال تام للسلطة القضائية، وإبعادها عن أي تأثيرات خشنة من قبل النافذين لتمرير مصالحهم الفئوية والمالية، فكيف للقاضي أن يشعر بالأمان إذا كان تعيينه في وظيفته يحصل بمرسوم من قبل السلطة التنفيذية؟ والتشكيلات تتأثر بالتجاذبات الطائفية وبصراع النفوذ وبمزاجية الرئيس؟ والأخطر من كل ذلك فإن صرف موازنة الجسم القضائي، بما في ذلك ثمن الحاجيات الضرورية لعمل المحاكم تخضع لإرادة المرجعيات المالية المعتمدة كما في كل دوائر الدولة، ويمكن لهذه المرجعيات أن تحجب أي مستحقات بإرادة سياسية حينما تشاء.
المؤشرات السياسية تبين مدى خطورة الوضع القضائي الحالي على مستقبل الكيان اللبناني، ذلك أن ملف التحقيقات في جريمة مرفأ بيروت وصلت إلى مفترق خطير جدا، وكل محاولات تدوير الزوايا لتجاوز هذا الاستحقاق فشلت، فأطراف الثنائي الشيعي لا تستطيع تحمل نتائج تحقيقات القاضي طارق البيطار ومن سبقه في مسك ملف تفجير المرفأ، والقوى الأخرى لا تتحمل عقد أي صفقة على حساب تطيير هذه التحقيقات. وإذا كان الدستور ينص على محاكمة الرؤساء والوزراء أمام المجلس الأعلى لمحاكمة هؤلاء، إلا أن اتهام المرتكبين أمام هذا المجلس صعبة للغاية، لأنها تتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب، وهذا مستحيل في الواقع اللبناني، علما أن الجزء الأساسي من ملف التفجير لا يتعلق بالوزراء والرؤساء الذين قد يتحملون تبعات تقصيرية، بينما المسؤولية الجرمية تقع بغالبيتها على أطراف من خارج هذه الدائرة. وسحب الملف من المحقق العدلي إلى المجلس الأعلى يعني إفلات هؤلاء المرتكبين من الحساب، وهو ما لا يقبله الرأي العام اللبناني وأهالي الضحايا والمجتمع الدولي.
أحد كبار القضاة الذي طلب عدم ذكر أسمه، قال: ما يحصل في العدلية غريب، ويبدو أنه مدروس لتدمير الجسم القضائي، فعدد من المنتدبين يبالغون في التغيب عن عملهم من دون مبرر، والملاحظ أن هؤلاء ربما يتأثرون بمرجعية سياسية ترغب في تأخير بعض التحقيقات، إضافة إلى التهديدات السياسية العلنية والضمنية التي يتلقاها قضاة، فإن قسما منهم أصبحوا ضحية حيادهم في سياق ممارستهم للمهنة، ويشعرون بمخاوف أمنية، كما أن تأمين الحماية لهم من قبل العناصر الأمنية، يخضع لمزاجية بعض قادة الأجهزة الذين يتلكأون في تلبية طلباتهم، إضافة إلى كون العناصر المولجة حمايتهم غالبا ما تتلقى الأوامر من قيادتها، وبعض هؤلاء تحولوا من مرافقين لهم إلى مراقبين عليهم، وبين سطور هذه الحكاية التي يتجنب القضاة الحديث عنها، روايات وحكايات متعددة، وصلت إلى حد تهديد القضاة بسحب عناصر الحماية منهم.
ناصر زيدان – الانباء