شارل جبور -الجمهورية
تتجاوز الحركة السياسية التي تشهدها البلاد كل ما يتمّ تداوله عن مَساع تَهدوية لتبريد المناخات المتشنجة والقضاء على الفتنة والحفاظ على الاستقرار واحتواء تداعيات «قيصر»، وإلى آخر هذه المعزوفة وأدبياتها الممجوجة.
على رغم انّ السيّد حسن نصرالله نفى قطعياً السعي إلى حكومة جديدة، وجدّد دعمه لحكومة الرئيس حسان دياب، إلّا انّ الحركة السياسية غير الاعتيادية تَشي بالتهيئة لمرحلة جديدة بما يتخطّى العناوين المُثارة التي يتم تضخيمها عمداً بانتظار إنضاج التسوية التي يعمل عليها بخطوات ثابتة وراء الكواليس.
فالكلام عن الفتنة مضخّم ولا يتعدى بعض التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، فأيّ فتنة يمكن حدوثها في ظل إصرار القوى الأساسية المُمسكة بمفاصل الشارع برفض هذه الفتنة؟ وأيّ فتنة يمكن وقوعها في ظل الغطاء السياسي للجيش والقوى الأمنية بضبط الشارع؟ وما حصل من توترات يتراوح أساساً بين العفوي بسبب الاحتقان الاجتماعي المبرّر المتصل بسوء الأوضاع المعيشية، وبين المفتعل بغية تحضير الأرضية المواتية للتغيير الذي يعمل عليه.
فالوضع مَمسوك لأن لا قرار سياسياً بالفتنة او الحرب، وأي انفلات للوضع يكون نتيجة الغليان الاجتماعي الذي لا يمكن معالجته سوى بالتخفيف من حدته ليس عن طريق اللقاءات ولا الحوارات السياسية، إنما من خلال المعالجات المالية والاقتصادية، وأصحاب الشأن يدركون ذلك تماماً، كما يدركون بأنّ استفحال الوضع المعيشي سيجعل عاجلاً أم آجلاً الوضع الاجتماعي عَصيّاً عن الضبط.
وقانون «قيصر» ليس شأناً لبنانياً ولا يشبه حقبة صدور القرار 1559 واتهام بعض القوى السياسية بتبنّيه والوقوف خلفه، لأنّ حيثيات القانون الأخير لبنانية بامتياز خلافاً لحيثيات قانون «قيصر» السورية بامتياز إعداداً واستهدافاً، وذلك على رغم التداخل بين الشأنين اللبناني والسوري، كما تَبعات هذا القانون على الوضع اللبناني من زاوية تلافي تداعياته السلبية من خلال التعامل بحكمة وبما يجنِّب لبنان الرسمي أيّ عقوبات محتملة.
فلا التأزُّم الاجتماعي هو نتيجة مؤامرة أميركية تُحاك ضد لبنان، ولا «قيصر» مؤامرة تستهدف اللبنانيين، وإذا كان هناك فعلاً من مؤامرة فإنّ أصحابها هم الأكثرية الحاكمة التي أوصلت لبنان إلى الانهيار، والشعب اللبناني إلى الفقر والعوز والخوف على المصير. ومقاربة هذا الوضع تكون بالشروع في إصلاحات فورية تعبِّد طريق الثقة بين لبنان والمجتمع الدولي، وتفتح الباب أمام دخول العملة الخضراء، وليس بالهروب إلى الأمام ورمي الاتهامات في كل الاتجاهات.
فالوضع المَشكو منه ليس سياسيّاً، أقله بالنسبة إلى شريحة لبنانية واسعة أولويتها الراهنة الخروج من الأزمة المالية الخانقة، وإذا كان يستحيل أساساً فصل الشأن المالي عن السياسي، لا سيما انّ الانهيار لم يحصل سوى بفِعل السياسات المعتمدة من قبل فريق 8 آذار، إن كان ذلك من خلال دوره الإقليمي وسلاحه، أو في طريقة إدارته للدولة، إلّا انّ الوضع الحالي لا يشبه أقله شعبياً مرحلة الانقسام بين 8 و14 آذار.
ومن هذا المنطلق لا يوجد ما يبرّر الحركة السياسية الناشطة على أكثر من خط، وتحديداً على خط عين التينة-بيت الوسط-كليمنصو، بل لا شيء يستدعي هذه الحركة التي يتمّ تصويرها في إطار شبكة الأمان السياسية لحماية لبنان من الفتنة ومن قانون «قيصر»، فيما هي في الحقيقة أبعد من ذلك والأسابيع المقبلة ستكون كفيلة بتظهير حقيقة ما يُحاك خلف الأبواب الموصدة.
وهذا لا يعني التشكيك بحرص القوى المعنية على الاستقرار الذي يشكّل قاسماً مشتركاً بين مختلف القوى السياسية، إنما للتدليل على أنّ اهتمامها يندرج في إطار التهيئة لمرحلة سياسية جديدة، وما يحصل يشكل جزءاً من مقدماتها العملية التي تتطلّب ولادة حكومة جديدة تكون، بالنسبة إلى «حزب الله»، على مستوى المرحلة وتحدياتها المالية والسياسية.
ولا يستطيع السيد نصرالله اليوم سوى التمسّك بالحكومة، ولكنه سيجد سريعاً العذر بالتخلّي عنها عند أي بروفا جديدة على غرار ما حصل في 6 حزيران، والبروفا ستكون جاهزة للتنفيذ فور اكتمال عناصر التسوية الجديدة، لأنّ الحزب يدرك انّ البلاد لا تحتمل الدخول في فراغ طويل على غرار الفراغات التي يحدثها تأليف الحكومات، إنما بحجّة دقة الأوضاع سيشكّل تشكيل الحكومة رقماً قياسياً على هذا المستوى، حيث كل التفاصيل المتعلقة بالتوازنات والحقائب والقوى المشاركة ستكون جاهزة بانتظار الساعة الصفر.
ولا شك انّ «حزب الله» نجح بإقناع الرئيس ميشال عون بأنه ليس من مصلحتهما مواجهة التأزُّم المالي والسياسي من مربّع 8 آذار، حيث انّ حكومة دياب أدّت إلى انكشافهما ووضعتهما في مواجهة مباشرة مع الداخل والخارج، وحمّلتهما مسؤولية الانهيار والخروج منه، فيما في ظل حكومة وحدة وطنية يضيع «الشنكاش»، والحزب يفضِّل ألا يكون في الواجهة وأن يضع غيره في هذه الواجهة من أجل أن يخفّف ضغط بيئته عليه وضغط الشارع اللبناني عموماً.
ومعلوم انّ الحزب كان من الأساس مع حكومة وحدة وطنية وفي حده الأقصى مع حكومة تكنو-سياسية، ولكن مع إصرار عون على استبعاد الرئيس سعد الحريري، ومع الشروط التي وضعها الأخير وعدم قدرة الحزب على تلبيتها، وافقَ مُرغماً، بسبب غياب الخيارات، على الحكومة الحالية.
ويبدو انّ معظم القوى السياسية على ضفّتي الموالاة والمعارضة، والتي تتصدّر الحراك السياسي اليوم، اقتنعت، بفِعل الظروف، بضرورة مراجعة مواقفها والتقدّم باتجاه مساحة مشتركة بما يخدم أولوياتها. وقد تولى الرئيس نبيه بري مهمة الإخراج المطلوب من موقع قوة على أثر تسجليه نقاطاً ثمينة في مرمى «حزب الله» بسبب تعثّره في هندسته المحلية بانتخاب عون والإقليمية بقانون «قيصر»، فقفز بري إلى مقدمة المشهد السياسي بعد انكفاء طويل له ولحليفيه الحريري وجنبلاط، فتقدّم هذا الثلاثي مجدداً إلى الواجهة مُبدِّياً الحسابات المحلية السلطوية على الانقسام الذي فرّق بينهم نسبياً في مرحلة 8 و14 آذار.
وعلى غرار الزلزال الذي أحدثه اغتيال الشهيد رفيق الحريري وأدى إلى إخراج الجيش السوري من لبنان وخلط الأوراق المحلية والحسابات والتحالفات، فإنّ قانون «قيصر» بمثابة الزلزال الجديد، وإذا كانت مفاعيله لن تكون بالسرعة نفسها والوقع نفسه، إلّا انّ هذه المفاعيل آتية لا محال، ودوائر القرار في محور الممانعة تدرك انها في سباق مع الوقت، وانّ الرهان على الانتخابات الأميركية سقط، لأنّ التغيير في سوريا، واستطراداً في لبنان، متوقّع حدوثه قبل هذه الانتخابات وبما لا يخدم استراتيجية هذا المحور ولا يتوافق معها.
وفي خلاصة هذا المشهد يمكن الجزم انّ الحراك الحاصل ليس لمجرد الحراك والصورة السياسية أو لتعبئة الوقت والفراغ أو لتنفيس الاحتقان غير الموجود أساساً، إنما الهدف من هذا الحراك، والذي سيتّضِح قريباً، التهيئة للمرحلة المقبلة وبما يتجاوز، ربما، الحكومة الجديدة، أي حكومة «قيصر»، من خلال الاتفاق على هندسة سياسية جديدة شبيهة إلى حد كبير بالهندسة التي سبقت خروج الجيش السوري من لبنان وتَلَته، وتشمل هذه المرة الاتفاق على خريطة طريق المرحلة المقبلة حكومياً ورئاسياً ونيابياً، ولكن السؤال الأساس الذي يطرح نفسه: إلى أيّ حد ستتمكّن هذه الهندسة من الصمود أو أن تبصر النور إذا كانت تتعارَض مع التوجّه الأميركي واستطراداً الدولي، والأهم إذا كانت تتعارض مع المصلحة اللبنانية العليا بقيام الدولة في لبنان؟