الصراع: من سنّي – شيعي إلى سنّي – مسيحي

  • Aug 5, 2021 - 7:30 am

ما كاد الرئيس نجيب ميقاتي يُكلَّف تشكيل حكومة حتّى أطلّ الرئيس سعد الحريري في مقابلة تلفزيونية ليهاجم العهد، ويعبّر عن ندمه لإبرام التسوية مع الرئيس ميشال عون.

ثمّ أطلّ النائب جبران باسيل في مقابلة تلفزيونية أخرى ليهاجم الحريري، وقال: “مَن يفكّر أنّه يقدر أن يحرقنا، فسنحرقه”، مع حرصه طبعاً على إبداء كامل الاستعداد لتسهيل مهمّة الرئيس المكلف!
مقابلتان في توقيتهما ومضمونهما تركتا صدىً مبكراً جدّاً لاستمرار، بل لتصلّب الصراع السياسي – الطائفي بين الطرفين، والذي كان “الكباش” حول الحكومة ولا يزال مسرحاً أساسيّاً له.

لم يلغِ تكليف ميقاتي هذا الصراع، لكنّه أعاد تدويره، وأوجد له مسرحاً خارج الحكومة على الرغم من أنّ تأليف حكومة مرهونٌ أساساً بقدرة ميقاتي على تحييد مفاوضات التأليف عن هذا الصراع. وهذه مهمّة يبدو أنّها ليست سهلة أبداً على ميقاتي، رجل الأعمال الذي عبّر باسيل عن إعجابه بنجاحه في عالم الأعمال. لكنّ نجاح الرجل في “عالم الحكومة” مرتبط حتماً بتلبية شروط “نائب البترون” الذي يُمسك بورقة تعطيل الحكومة من خلال رفض الرئيس عون أيّ تشكيلة وزارية لا ترضي فريقه السياسي.

والسؤال الرئيس: إذا كان حزب الله قد عجز فعلاً عن تليين موقف باسيل إبّان تكليف الحريري، فهل هو عاجزٌ عن ذلك في ظلّ تكليف ميقاتي؟ مع الأخذ في الاعتبار أنّ تكليف الأخير في حدّ ذاته عدّل في موازين القوى الحكومية، وفتح الباب أمام إمكان تحييد مسار التأليف عن صراع الحريري – باسيل.

ربما تكون الإجابة بأنّ الضوء الأخضر الإيراني لم يأتِ بعد. فلماذا يحزم الحزب موقفه؟

أما الحريري، وأيّاً تكن درجة “تبريده” مع الحزب، لا يُعدُّ حليفه، فيما ميقاتي أقرب، ولذلك فقد سمّاه الحزب لأنّه، بالحدّ الأدنى لأسباب التسمية، لا يملك حجّةً مقنعة لعدم تسميته، وهو الذي انقلب معه على الحريري في عام 2011.

وللتذكير فإنّ الحزب تنازل في حكومة ميقاتي تلك عن وزير من الحصّة الشيعية لكي تبصر الحكومة النور. وهذه سابقة تؤكّد أنّ الحزب مستعدّ إذا رغب فعلاً في تشكيل حكومة، لا للضغط على حلفائه لحثّهم على التنازل وحسب، بل للإقدام على التنازل بنفسه ومن حصّته، ما دامت الحكومة في تركيبتها السياسية تعدُّ حكومته.

فهل تتكرّر هذه التجربة الآن؟

الأكيد أنّه لا يزال من المبكر التكهّن بمآل مفاوضات التأليف. لكنّ الأكيد أيضاً أنّه في حال عدم تأليف حكومة هذه المرّة بعد تكليفين خلال سنة، الأوّل للسفير مصطفى أديب، والثاني لسعد الحريري، فإنّ الحزب يكون قد غطّى تعطيل باسيل، أو أنّ باسيل يكون قد تلطّى بعدم استعجال الحزب تشكيل حكومة لتعطيل تأليفها. وفي الحالين فإنّ الحزب يدفع باتجاه تعقيد الأزمة السياسية وتصويرها على أنّها أزمة نظام سياسي يستدعي حلّها تغيير النظام السياسي نفسه.

وهو ما يحيل إلى كلام باسيل في مقابلته الأخيرة، إذ تحدّث عن انتهاء الجمهورية الثانية، والذهاب إلى الجمهورية الثالثة، في وقت هو يرفض إحلال المثالثة بدل المناصفة.

ماذا يملك باسيل من أوراق القوّة حتّى يتمكّن من فرض هذه المعادلة، لولا غطاء الحزب له؟ وهو غطاء يستوعب حتّى الآن “شطط” رئيس التيار. لكن إلى أيّ حدّ؟ هل إلى حدّ تخلّي الحزب عن فكرة المثالثة؟

طبعاً لا.

وبالتالي فإنّ عدم تشكيل الحكومة الميقاتية سيؤدّي إلى بروز التناقضات الطائفية في اللعبة السياسية إلى حدودها القصوى، وسيفتح باب الصراع السياسي – الطائفي على مصراعيه. والخطر الحقيقي أنّ ذلك كلّه يحصل عشيّة انتخابات نيابية ستشهدُ أشدّ تحفيز للعصبيّات الطائفية في تاريخ الجمهورية. وللمفارقة فإنّ لبنان كان قد شهد منذ 17 تشرين 2019 أعمّ مناخ سياسي وشعبي معاكس لهذا التحفيز في تاريخ الجمهورية أيضاً.

لكن للأسف ليس الصراع الأساسي بين القوى اللاطائفية والقوى الطائفية، بل بين القوى الطائفية نفسها. فالصراع الأوّل لا يزال هامشياً، وربّما تحدّد الانتخابات المقبلة ملامح تطوّره. هذا في حال أُجريت هذه الانتخابات. لأنّ الصراع الطائفي نفسه قد يفجّرها، خصوصاً إذا استشعر تحالف الحزب – التيّار احتمال خسارته الغالبية النيابية. وذلك على الرغم من محاولة باسيل ذرّ الرماد في العيون من خلال الاستخفاف بفاعليّة الأكثرية النيابية الحالية عقب تكليف ميقاتي.

بيد أنّه لا يمكن إسقاط التناقض الداخلي في تحالف التيار والحزب من الحسبان. وهو تناقض بدا أوضح منذ اندلاع الأزمة المالية والتصدّع الكبير الذي شهده “التيار الوطني الحر”. فعلى الرغم من حاجة كلا الحزب والتيار واحدهما إلى الآخر لتكريس موازين القوى الراهنة، فإنّ أولويّاتهما السياسية – الطائفية قد لا تلتقي دائماً. ويمكن القول إنّ السياسة الطائفية لكلّ منهما تتميّز بديناميكية خاصّة بها، وتحديداً في الصراع مع المؤسسة السياسيّة السّنّية.

فالحزب يربط هذا الصراع بمداه الإقليمي كحلقة رئيسة من حلقات الصراع في المنطقة. لكنّه يسعى في الوقت نفسه إلى التحكّم بهذا الصراع وإدارته، والعمل في الوقت نفسه على اختراق ساحة الخصم، كما يفعل داخل كل الطوائف، ولكن بالأخص داخل الطائفة السنّيّة.

أمّا التيار فله اعتبارات محليّة مختلفة تماماً. فهو يعادي المؤسسة السياسيّة السنّيّة كارتداد للصراع السياسي التاريخي بين الموارنة والسنّة على النظام السياسي وصلاحيّاته، في وقت كان السنّة والشيعة في خندق واحد تقريباً عشيّة الحرب. فإذا أتى السنّة إلى مشروع التيّار السلطوي، كما في تسوية 2016، فهم “الشركاء”، وإذا ابتعدوا عن هذا المشروع فهم “الأعداء”.

هذا التمايز بين الحزب وباسيل في التعاطي مع “السنّيّة السياسية”، يجعل من الضروري تفكيك الانقسام السياسي الطائفي في البلد. إذ هو يتأرجح بين كونه ثنائيّاً بين السنّة والدروز في مقابل الشيعة والمسيحيين، وثلاثيّاً بين كلّ من المسيحيين من جهة، والسنّة + الدروز كطرفٍ ثانٍ، والشيعة كطرفٍ ثالث. والحديث هنا هو عن القوى النافذة في الطوائف لا عن الطوائف بكلّيّتها.

ستوضح الانتخابات المقبلة اتجاه هذا الانقسام أكثر: هل يكون ثنائياً أكثر منه ثلاثياً أو العكس؟ وهذا يتوقّف على موقف الحزب ودرجة “تسامحه” مع مناورة التيار الذي يحاول أن يخوض الانتخابات المقبلة بأعلى نفس سياسي طائفي ممكن، وبالتحديد ضدّ المؤسسة السياسية السنّيّة. وفي المقابل، سيردّ تيار “المستقبل” على باسيل بالمنهجية نفسها، ولو مع اختلاف الأسلوب

والحدّة. إنّما عمليّاً نحن أمام محاولة لتجديد الصراع السنّي – المسيحي تحت أنظار الحزب، فهل برضاه وبتشجيع مضبوط منه؟

والأخطر أنّ هذا الصراع سيدور بشكل رئيس حول النظام السياسي، أي حول الدستور ووثيقة الوفاق الوطني. ومخطئ مَن يظنّ أنّه يُمكن، في ظلّ موازين القوى الحالية وطبيعة القوى السياسية الطائفية، تطوير النظام السياسي إلى آفاق “مدنيّة”. بل إنّ النتيجة ستكون إسقاط الطائف إلى الوراء لا إلى الأمام، أي الانتقال إلى تكريس الفرز الطائفي في النظام السياسي، فيما قام “اتفاق الطائف” على محاولة تجاوزه.

إلى ذلك كلّه، لم تتوانَ القوى المسيحية الرئيسة عن وضع ملفّ انفجار المرفأ في إطار استراتيجيّتها لاستقطاب الرأي العام المسيحي المستثار إزاء هذه القضية المحقّة، التي برز داخلها مناخٌ لا يفسّر مجرياتها تفسيرات قضائية ودستورية فحسب، بل وطائفية أيضاً. وإذا كانت هذه القوى لا تتبنّى “رسمياً” هذا المناخ فهي لم تعارضه أو تستنكره، وهذا يحمّلها مسؤولية رئيسة في استثمار هذا الملف سياسياً. وهو ما يستعيد تجربة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي كان اعتمادها هو الطريق الوحيد لعزل مجريات التحقيق والمحاكمة عن التبعات السياسية والأهلية المحتملة لهما… وهذا ما لن يحصل في ملفّ انفجار المرفأ.

إيلي القصيفي – اساس ميديا